من يتابع تاريخ العلاقات الروسية الأميركية، يمكنه بسهولة استشراف أنه لا يمكن للدولتين الذهاب إلى حل الملفات العالقة بينهما وفق طريقة معالجة كل ملف على حدة. غالباً ما تتجمع الملفات كلها لتوضع في سلّة واحدة تشكل عناصر متعددة لإبرام تفاهمات أو صفقات شاملة. إذ تعمل روسيا وأميركا في الأزمات الدولية وفق سياسة الملفات المتعددة، أي كل ملف ينفصل عن الآخر. ويضغطون على بعضهم بعضا في ملفات متعددة. هناك مجموعة أزمات يتم العمل عليها بين الدولتين، وأهمها هي أوكرانيا، والتي يعتبر بوتين أن الأميركيين يضغطون عليه إلى حد بعيد، ملف الدرع الصاروخي وتوسع حلف الناتو، أزمة بيلاروسيا وبولندا، الملف النووي الإيراني، وضع أفغانستان، خطوط النفط والغاز، وغيرها.
تتزاحم هذه الملفات بين الدولتين، فيما العلاقة متوترة بين موسكو وواشنطن في ظل تولي الديمقراطيين للسلطة في أميركا. تتصاعد وتيرة التهديدات الروسية حول غزو أوكرانيا، في حين تكثف واشنطن من تحذيراتها لموسكو من مغبة القيام بأي اجتياح. ملف أوكرانيا له ارتباطاته وانعكاساته على الوضع في الشرق الأوسط، ومن يعود بالذاكرة إلى الخلف يمكنه استعادة أبرز الأسباب التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للدخول إلى سوريا، وهو الخلاف حول توسع حلف الناتو في محيط روسيا وتحديداً في الدول التي كانت سابقاً منضوية في الاتحاد السوفييتي، أو بسبب نشر الدرع الصاروخية.
تضطلع روسيا بأدوار متعددة في المنطقة، لا سيما في ظل الاختلاف الأميركي الخليجي حول ملفات أساسية. تسعى موسكو إلى ترتيب وعقد تفاهمات مع دول الخليج بوابتها الساحة السورية ومحاولة إقناع السعودية في تطبيع العلاقات مع النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، كذلك تحاول موسكو إقناع السعودية بالموافقة على إعادة سوريا إلى الجامعة العربية. إلا أن السعودية لا تزال ترفض ذلك، قبل قيام الأسد بما يجب عليه وخصوصاً ما يتعلق بتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا.
بوتين يبدي الاستعداد لتقديم المدفوعات الواجبة عليه في سوريا لكنه يريد أن يقبض ثمناً مقابلاً لها في الخارج، وهذا ما لا تزال واشنطن تمانعه.
ينقل بعض الذين التقوا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مؤخراً قوله: "إن الصعوبات كبيرة وهناك تعقيدات متعددة، ولكن يعتقد بوجود بصيص أمل، سواء في فيينا أو في ملفات أخرى، وإدارة بايدن تصر على إنجاز الاتفاق قبل الانتخابات النصفية في أميركا، وإيران تستعجل الوصول إلى اتفاق بسبب التداعيات الاقتصادية الهائلة التي تعانيها طهران. يعتبر الروس أن هناك بوادر إيجابية يمكن المراكمة عليها، وهي أن الحوار السعودي الإيراني سيؤدي حتماً إلى تفاهمات متعددة ربما على المدى المتوسط".
في المقابل، برزت زيارة المبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف إلى السعودية حيث التقى الأمير محمد بن سلمان وبعدها إلى سوريا حيث التقى بشار الأسد، بحسب المعلومات فإن لافرنتييف حاول إقناع السعوديين بضرورة تعزيز التواصل مع السوريين كما حاول إقناعهم بالدخول إلى سوريا من بوابة المشاركة في عملية إعادة الإعمار. في حين يركز الروس على وجود تواصل سعودي سوري عبر جهات أمنية متعددة، وموسكو تقود جانباً من هذا التواصل، وتندرج زيارة لافرنتييف في هذا السياق، وروسيا تحاول إدخال الخليج إلى إعادة الإعمار في سوريا، والبدء أولاً بالبنى التحتية. فلا أحد غير الخليج قادر على ذلك. سياسياً لا بد لهذا أن يرتبط بتطورات جديدة على خطّ العلاقات، ولكن القضية السورية ستكون آخر حلقة من حلقات الحل لأن فيها كم كبير من التعقيدات. ولذلك لا مجال لنجاح الجهود في إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية، وسط ضغوط روسية متركزة لتحقيق تلك الخطوة. الدول العربية تطالب بالعودة إلى جنيف واحد وإنجاز الدستور السوري الجديد كخطوة أولى للبحث الجدي في إعادة العلاقات.
هناك قناعة دولية ترتكز على أن لا حلّ لأي أزمة في الشرق الأوسط بدون اتفاق أميركي روسي. وبالتالي كل المنصات التي تهتم بالملف السوري لا يمكنها تحقيق أي خرق بدون توافق روسي أميركي، سواء كان ذلك في جنيف أو في أستانا أو حتى المنصات المتعددة للمعارضة السورية. ثمة قناعة دولية واضحة، تتعلق بانعدام القدرة على إعادة تأهيل الأسد، وفيما هناك مطالب دولية بتحجيم نفوذ إيران، بينما موسكو تعتبر أن إيران دولة إقليمية ولها دورها في المنطقة، فإن ذلك إما يفترض أن يقود إلى استمرار التصعيد مع إيران، أو الاتفاق على صفقة تتعلق بتراجع إيران وتقديم تنازلات. مثل هذا الاتفاق لا يمكن لأحد أن يفرضه سوى الولايات المتحدة الأميركية، إذ إن بوتين يبدي الاستعداد لتقديم المدفوعات الواجبة عليه في سوريا لكنه يريد أن يقبض ثمناً مقابلاً لها في الخارج، وهذا ما لا تزال واشنطن تمانعه. أما موقف دول الخليج حول استعادة الاهتمام أو العلاقة مع دمشق فتنطلق من مرتكزين، المرحلة الانتقالية، وما يمكن لدمشق أن تقدّمه بما يتعلق بتحجيم النفوذ الإيراني.